لا زلنا نواصل بحث الآيات ذات الارتباط بالمباحث الاُصولية وقد تقدّم البحث عن مباحث القطع والظن . . وتعرّضنا فيما تقدّم إلي أربع آيات بهذا الصدد ، وسنذكر ما تبقّي من الآيات . . .
5 ـ قوله تعالي : « أفلا يتدبّرونَ القرآنَ ولو كانَ من عندِ غيرِ اللّهِ لوجدوا فيهِ اختلافا كثيرا »( 1 ) .
الآية تحثّ علي التأمّل في الآيات القرآنية ، وترغّب في البحث وإنعام النظر في بيانات القرآن ، فانّها بالرغم من اختلاف الموضوعات التي عالجتها ، وبالرغم من تفاوت الظروف والمناسبات التي نزل فيها الخطاب القرآني ، وبالرغم من طول المدّة فإنّ القرآن نزل في غضون ثلاث وعشرين سنة ، فانّه بالرغم من ذلك كله لا يمكن لأحد أن يجد تهافتا وتناقضا وتفاوتا فيما بيّنه القرآن من المضامين ، ولا يستطيع شخص أن يعثر علي أدني تفاوت في مستوي البيان من ناحية المتانة والبلاغة .
فلا اختلاف اذن في المحتوي والمضمون القرآني ولا اختلاف في الأداء وطريقة البيان . بل إنّ القرآن يمتاز بأنّه منسجم في كل اجزائه يصدق بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض . وهذا يدلّ علي انّه كتاب منزل من اللّه سبحانه ؛ إذ لو كان من عند غير اللّه لابتلي بالتفاوت الكثير سواء علي صعيد المضمون أو علي صعيد الأداء .
ووصف الاختلاف بالكثرة ـ في قوله تعالي : « اختلافا كثيرا ـ »وصف توضيحي لا احترازي ، وليس المراد نفي خصوص الاختلاف الكثير عن القرآن دون الاختلاف اليسير ، بل المراد نفي مطلق الاختلاف سواء أكان كثيرا أم يسيرا .
والمتحصل من الآية :
أوّلاً ـ انّ القرآن يمكن أن يدركه الانسان العرفي ومما يناله الفهم العادي ، وليس هو كتابا ملغّزا ، وإلاّ فلو كان كتابا للخواصّ من البشر لما دعا القرآن عامّة الناس إلي التدبّر والتأمّل في آياته .
ثانيـا ـ انّ القرآن الكريم كتاب منسجم الأجزاء ومتناسق الآيات وخالٍ من التشويش والاضطراب ، يفسّر بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض .
ثالثـا ـ انّ نفي الاختلاف والتهافت عن القرآن لا ينحصر في زمان نزوله بل إنّ هذه الصفة للقرآن ثابتة علي الدوام ، فهو منزّه عن أن يبتلي بالاختلاف والتهافت في طول الزمان .
رابعـا ـ انّ نفي الاختلاف عن القرآن ليس بلحاظ القرآن نفسه وما يتسم به من انسجام داخلي ، بل إنّه ينسجم مع الواقع ومع الفطرة ، فالقرآن كتاب كامل منزّه عن أيّ خلل .
خامسـا ـ انّ القرآن باعتباره كاملاً وخاليا من الاضطراب والتشويش والتهافت فلا يحتاج إلي تعديل أو إصلاح أو تغيير أو إبطال .
وعلي ضوء هذا البيان يمكن القول بأنّ هذه الآية تعدّ أفضل مدرك وخير سند دالّ علي مرجعية القرآن الكريم في التشريع .
6 ـ قوله تعالي : « إنّ الذينَ كفروا بالذكرِ لمّا جاءَهم وإنّه لكتاب عزيز * لا يأتيه الباطلُ من بينِ يديهِ ولا من خلفِهِ تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ »( 2 ) .
المراد بالذكر القرآن ، وقد وصف في هذه الآية بأنّه كتاب عزيز أي منيع ؛ ممتنع من أن يغلب ، ولا يمكن للباطل أن يجد سبيلاً إليه ، فلا يطرأ الباطل علي بعضه ولا علي جميعه ، فنفي البطلان مطلق من ناحية عدم صيرورة بعض اجزائه باطلاً أو جميعها باطلاً ، وأيضا مطلق من ناحية الزمان لا حال نزوله ولا في المستقبل « لا يأتيهِ الباطلُ من بينِ يديهِ ولا من خلفهِ » ، بل يحتمل كون المراد نفي البطلان من أي جهة كان فهو مصون من البطلان من جميع الجهات نظير قول القائل : الصباح والمساء كناية عن الزمان كلّه .
وعليه فالكتاب الذي يكون بهذا الوصف يصلح أن يكون سندا ومرجعا لأخذ التعاليم والأحكام .
7 ـ قوله تعالي : « ولقَد يسّرنا القرآنَ للذكرِ فهل من مدّكر »( 3 ) .
وعليه ، فالكتاب الذي يكون بهذا الوصف يصلح أن يكون سندا ومرجعا لأخذ التعاليم والأحكام .
وقد تكرّرت هذه الآية بلفظها عدّة مرّات في سورة القمر .
ففي هذه الآية تقرير لهذه الحقيقة ، وهي أنّ اللّه سبحانه وتعالي تصدّي لتيسير القرآن وتسهيله للذكر ، فأنزله وألقاه علي نحو يسهل فهم معانيه ودرك مقاصده للناس جميعا عوامهم وخواصهم ، وحينئذٍ تتم الحجة البالغة للّه علي الناس بعد ذلك التبيين والايضاح والسلاسة في عرض المضامين العالية .
وهذه الحجّية والمرجعية للقرآن لا تختص بزمان دون زمان ، بل هي حقيقة باقية مدي الدهر .
8 ـ قوله تعالي : « قلْ إنّما أتّبعُ ما يوحي إليّ من ربّي هذا بصائرُ من ربكم وهدي ورحمةٌ لقومٍ يؤمنون »( 4 ) .
في هذه الآية وصف القرآن ـ المشار إليه باسم الاشارة ( هذا ) ـ بأنّه عبارة عن مجموعة بيانات وإيضاحات وأنوار من أجل تفهيم الناس وهدايتهم وتبصيرهم . فاذا هو يمتاز بعنصر الوضوح ، بل منتهي الوضوح أوّلاً ، وثانيـا يمتاز بعنصر الهداية . وهذان العنصران مقوّمان لمرجعية القرآن وكون مرجعيته ضرورية ، إذ لا مرجع للانسان تتوفّر فيه هذه الخصائص .
وهذا ما يثبت مرجعية القرآن في الأحكام .
9 ـ قوله تعالي : « أفغيرَ اللّهِ أبتغي حكَما وهو الذي أنزلَ إليكمُ الكتابَ مفصّلاً »( 5 ) .
عبّرت الآية بالحكَم ولم تعبّر بالحاكم وإن كان المعني واحدا ؛ وذلك لأنّ الحكَم أمدح ، لأنّ معناه من يستحق أن يتحاكم إليه ، فهو لا يقضي إلاّ بالحق ، في حين أنّ الحاكم قد يحكم بغير حق .
ومضمون الآية هو الاستدلال علي أحقية اللّه سبحانه بالحكومة والتشريع بدليل ما أنزله من كتاب مشتمل علي الأحكام المتميّز بعضها عن بعض من غير اختلاط ولا تشويش ولا إبهام ، ومن كانت هذه صفته فيما يصدر من أحكام يكون أحقّ من غيره بالحكم جزما .
والآية تثبت كون القرآن خير مرجع للأحكام ، وتكون حينئذٍ وزان قوله تعالي : « واللّهُ يقضي بالحقِ والذينَ يدعون من دونهِ لا يقضون بشيء إنّ اللّه هو السميع البصير »( 6 ) . وقوله : « أفمن يهدي إلي الحقِ أحقُ أن يُتبَع أمّن لا يهدِّي إلاّ أن يُهدي فمالكم كيفَ تحكمون »( 7 ) .
فالآية إذن اعتمدت اُسلوب الاحتجاج في سبيل إثبات أحقّية القرآن بأن يكون مرجعا في الأحكام دون غيره ؛ لما اشتمل عليه من أحكام بيّنة متميّزة غير مختلط بعضها ببعض .
10 ـ قوله تعالي : « وبالحقِ أنزلناهُ وبالحقِ نزلَ وما أرسلناكَ إلاّ مبشّرا ونذيرا »( 8 ) .
تناولت الآية أهم خصائص القرآن وأنّه كتاب مصون من الباطل مطلقا ؛ فإنّ الكتاب منزّه عن الباطل من ناحية مَن أنزله ، فهو حق في كل ما اشتمل عليه ، وكذلك منزّه عن الباطل من ناحية نزوله علي النبي صلياللهعليهوآلهوسلم ، وكذلك من ناحية شخص النبي صلياللهعليهوآلهوسلم فانّه ليس له أن يتصرّف فيه بزيادة أو نقصان أو يتركه كلاًّ أو بعضا باقتراح من الناس أو هوي من نفسه ، أو يُعرض عنه فيسأل اللّه آية اُخري تحققا لرغبة شخصية أو رغبة الناس أو يتسامح في شيء من معارفه وأحكامه ؛ لأنّ وظيفة النبي صلياللهعليهوآلهوسلم منحصرة في حدود التبشير بالخير في الدنيا والنعيم في الآخرة وفي حدود الانذار من الباطل وما يجرّ من عذاب وخزي في الاُخري . فجميع أنحاء الباطل منفي عن القرآن ؛ إذا فانّه حق صادر عن مصدر حقّ ووصل إلي الناس وصولاً مصاحبا للحق لم تتلاعب فيه الأهواء ، وماذا بعد الحقّ إلاّ الضلال .
هذه مجموعة من الآيات تقرّر مرجعية القرآن ، وقد انتخبناها من عدد غفير جدّا من الآيات التي عالجت هذا الموضوع بألسنة مختلفة وبعضها قريب مما ذكـر ( 9 ) .
ومن المفيد أن ننقل جملة ممّا أفاده السيد عبد اللّه شبر ، فانّه بعد أن أورد كمّا هائلاً من الآيات قال :
« ايضاح ـ دلالة هذه الآيات علي المطلوب واضحة كالنور علي الطور لا يعتريها ريب ولا فتور ولا قصور ؛ لأنّه سبحانه وصف كتابه الكريم بإحكام آياته وتفصيل بيّناته وحسن تفسيره وجودة تقريره وامتنّ علي عباده بكونه بلسان عربي مبين ، خال عن العوج والاختلاف ، وأمر بتعقله وتدبره والاهتداء به والاقتباس من أنواره وكونه موعظة وبلاغا وتذكرة وشفاء ومبشرا ومنذرا ، ومدح أقواما يهتدون بسماعه ويتبعون أحكامه ويذمّ من لم يتدبّر مرامه ويخالف أحكامه ويطلب الاهتداء بغيره ، أتري انّه مع جميع ذلك لغز ومعمي لا يفهم من المعني ؟ !
كلا انّ هذا قول من لم يتدبر آياته ولم يفرق بين محكماته ومتشابهاته وقد قال تعالي : « هو الذي أنزلَ عليكَ الكتابَ منه آياتٌ محكماتٌ هنّ اُمّ الكتابِ واُخر متشابهات فأمّا الذينَ في قلوبِهِم زيغٌ فيتبعون ما تشابهَ منهُ ابتغاءَ الفتنةِ وابتغاءَ تأويلهِ وما يعلم تأويله إلاّ اللّه والراسخون في العلم »( 10 ) ، ذمهم تعالي علي اتباع المتشابه دون المحكم ووصف المحكمات بكونها اُمّا لرجوع المتشابهات اليها وخص العلم بالتأويل بالراسخين في العلم .
ثمّ إنّما صح الاستدلال بالآيات ؛ لتعاضد بعضها ببعض وبالاخبار الآتية التي يعترف الخصم بحجيتها ، ولحصول القطع منها بالمطلوب ، ولأنّ جملة منها قد فسرت بما يفهم منها ، ففي تفسير الامام في قوله تعالي : « ذلكَ الكتابُ لا ريبَ فيهِ هدي للمتقين »( 11 ) انّ هذا القرآن هدي وبيان من الضلالة للمتقين الذين يتقون الموبقات ويتقون تسليط السفه علي أنفسهم .
وفيه ـ في قوله تعالي : « قلْ من كانَ عدوّا لجبريل »( 12 ) الآية ـ انّ جبرئيل نزل بهذا القرآن علي قلبك بأمر اللّه مصدّقا لما بين يديه من سائر كتب اللّه ( وهدي ) من الضلال ( وبشري للمؤمنين ) . . . » .
ثمّ قال : « تأييد وتسديد ـ انّ جملة من المحدثين وأساطين المتقدمين قد صدروا كتبهم والاستدلال علي مطالبهم بالآيات القرآنية كصاحب روضة الواعظين وصاحب دعائم الإسلام ومؤلف جامع الأخبار وغيرهم وقال ثقة الإسلام في الكافي : وأنزل إليه الكتاب فيه البيان والتبيان قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون ثمّ قال : وخلف في امته كتاب اللّه ووصيه أمير المؤمنين وامام المتقين ، صاحبين مؤتلفين يشهد كل واحد منهما لصاحبه بالتصديق ، ثمّ استدل بجملة من الآيات علي وجوب التفقه في الدين وأورد جملة من الأخبار الدالة علي وجوب العمل بظاهر القرآن كما يأتي إن شاء اللّه .
واستدل الصدوق في الفقيه في باب المياه وباب القنوت وباب الجماعة وباب صلاة الليل وغيرها بجلمة من الآيات ولم يورد خبرا في تفسيرها . وله في أوّل الاكمال كلام صريح في ذلك ولم يزل جملة من أصحاب الأئمة يستدلون علي مطالبهم بالآيات القرآنية كما يأتي : ـ
قال الفاضل الخليل القزويني في شرح العدة : انّ حجّية القرآن وإن لم يحصل العلم بالمراد به ضروري الدين ان علم انّه الظاهر فيجب العمل به ويجوز الحكم بأنّه الظاهر وإن لم يجز الحكم بأنّه مراد ، وقال في موضع آخر : انّ جواز التمسك بظاهر القرآن في مسائل الاُصول والفروع ثابت ضرورة من الدين أو باجماع خاص معلوم تحققه وافادته القطع وإن لم يعلم حجّية كل اجماع ، وقال في موضع ثالث : انّ طريقة قدماء أصحابنا وهم الاخباريون انّه يجوز مع بذل الوسع في المطلب وعدم وجدان الحكم في ظاهر الكتاب العمل بأخبار الآحاد خاصة وقال المدقق الرضي القزويني في لسان الخواص : انّ وجوب العمل بظاهر القرآن وإن كان من ضروريات الدين ولكنه لا يستلزم العلم بالحكم الواقعي ، والحكم الواقعي إنّما يعلم من نصه السالم من احتمال خلافه المعلوم بقاء حكمه ، ثمّ قال : انّ القول بعدم جواز استنباط الأحكام من ظواهر الكتاب بدون سؤال الأئمة عليهمالسلام عن تفسيرها ساقط بالضرورة الدينية والأخبار المتواترة معني ، وقال صاحب الفوائد الغروية : انّ المتتبع يعلم انّ دأب العلماء السابقين وكذا أصحاب الأئمة هو الاستدلال بظواهر القرآن ثمّ قال : ولهذا جعل جمع من علمائنا جواز العمل بالظواهر من جملة الضروريات ، وقال أيضا : لا خلاف في جواز العمل وصحة الاستدلال بما يكون نصا غير منسوخ والمشهور بل طريقة أصحابنا السلف والخلف إلاّ الشاذ ـ الذي أسلفنا ضعف مذهبه ـ هو جواز العمل بالظاهر أيضا وصحة الاستدلال به » ( 13 ) .
( 1 ) النساء : 82 .
( 2 ) فصلت : 41 ـ 42 .
( 3 ) القمر : 17 .
( 4 ) الأعراف : 203 .
( 5 ) الأنعام : 114 .
( 6 ) غافر : 20 .
( 7 ) يونس : 35 .
( 8 ) الاسراء : 105 .
( 9 ) راجع الاُصول الأصلية والقواعد الشرعية : 88 ـ 93 .
( 10 ) آل عمران : 7 .
( 11 ) البقرة : 2 .
( 12 ) البقرة : 97 .
( 13 ) الاُصول الأصلية والقواعد الشرعية : 93 ـ 95 .